الأربعاء، 11 يناير 2012

- كيف وصل الغرب إلى المادية وجحد الدين!

كيف وصل الغرب إلى المادية وجحد الدين!
كيف وصل الغرب إلى المادية وجحد الدين!
جناية رجال الدين على الكتب الدينية :-
من أعظم أخطاء رجال الدين في أوربا ومن أكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر ، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني ، وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض ؛ فإن العلم الإنساني متدرج مترق ، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصرًا على كثيب مهيل من الرمل . ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين ، فإن ذلك ، كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم الذي انهزم فيه ذلك الدين المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل والخالص والزائف – هزيمة منكرة ، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده ، وشر من ذلك كله وأشأم أن أوربا أصبحت لا دينية.
ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة ، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريها من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية ، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها ، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف ، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية ( Christian Topography ) وعضوا عليها بالنواجذ وكفروا كل من لم يدن بها .

اضطهاد الكنيسة للعلم :-
وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا ، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة ، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب ، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم ، فقامت قيامة الكنيسة ، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي ، وأنشأوا محاكم التفتيش التي تعاقب – كما يقول البابا – أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول ، فجدت واجتهدت وسهرت على عملها ، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة ، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها ، وأحصت على الناس الأنفاس ، وناقشت عليهم الخواطر حتى يقول عالم نصراني :"لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه "، ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلثمائة ألف ، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو ، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم ، وحكمت عليه بالقتل ، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه ، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً ، وكذلك كان .
وهكذا عواقب العالم الطبيعي الشهير غاليليو (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس .

ثورة رجال التجديد :-
هنالك ثار المجددون المتنورون وعيل صبرهم ، وأصبحوا حرباً لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم ، ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة وعلم وأخلاق وآداب ، وعادوا الدين المسيحي أولاً والدين المطلق ثانياً ، واستحالت الحروب بين زعماء العلم والعقلية ، وزعماء الدين المسيحي ، - وبلفظ أصح الديانة والبوليسية – حرباً بين العلم والدين مطلقاً ، وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان ، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان ، فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر ، ومن آمن بالأول كفر بالثاني ، وإذا ذكروا الدين ، ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق ، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم ، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة ، وجباه مقطبة ، وعيون ترمي بالشرر ، وصدور ضيقة حرجة ، وعقول سخيفة بليدة ، فاشمأزت قلوبهم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء وكل ما يمثلونه ، وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم .

تقصير الثائرين وعدم تثبتهم :-
ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمثابرة على الدراسة والتفكير ، ومن الوداعة والهدوء ، ومن العقل والاجتهاد ما يميزون به بين الدين ورجاله المحتكرين لزعامته ، ويفرقون بين ما يرجع إلى الدين عن عهدة ومسئولية ، وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود وجهل واستبداد وسوء تمثيل ، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة ، ولكن الحفيظه وشنآن رجال الدين والاستعجال لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار في أكثر الإعصار والأمصار .
ولم يكن عندهم من صدق الطلب والنصيحة لأنفسهم وأمتهم وسعة الصدر ما يحملهم على النظر في الدين الإسلامي الذي كان يدين به أمم معاصرة لهم ، الدين الذي يخلصهم من هذه الأزمة و { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }. ولكن حمية الجاهلية والسدود التي أقامتها الحرب الصليبية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي ودعاية الكهنة ورجال الكنيسة ضد الإسلام وصاحب رسالته عليه الصلاة والسلام ، وعدم تجشم التعب والمطالعة ، وقلة الحرص على النجاة الأخروية والاهتمام بما بعد الموت ، زد إلى ذلك تفريط المسلمين في التبشير الإسلامي ، ونشر الإسلام في أوربا ، كل ذلك منعهم من الرجوع إلى الدين الإسلامي والأخذ به في ساعة كانوا يحتاجون إليه حاجة السليم إلى راق والمسموم إلى ترياق .

اتجاه الغرب إلى المادية :-
وعلى كل فقد وقع المحذور وانصرف اتجاه الغرب إلى المادية بكل معانيها ، وبكل ما تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ونفسية وعقلية وأخلاق واجتماع وعلم وأدب وسياسة وحكم ، وكان ذلك تدريجياً، وكان أولاً ببطء وعلى مهل، ولكن بقوة وعزيمة، فقام علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون في الكون نظراً مؤسساً على أنه على أنه لا خالق ولا مدبر ولا آمر ، وليس هناك قوة وراء الطبيعة والمادة تتصرف في هذا العالم وتحكم عليه وتدبر شئونه ، وصاروا يفسرون هذا العالم الطبيعي، ويعللون ظواهره وآثاره بطريق ميكانيكي بحت ، وسموا هذا نظراً علمياً مجرداً وسموا كل بحث وفكر يعتقد بوجود إله ويؤمن به طريقاً تقليدياً لا يقوم عندهم على أساس العلم والحكمة ، واستهزأوا به واتخذوه سخرياً ، ثم انتهى بهم طريقهم الذي اختاروه وبحثهم ونظرهم إلى أنهم جحدوا كل شيء وراء الحركة والمادة ، وأبوا الإيمان بكل ما لا يأتي تحت الحس والاختبار ، ولا يدخل تحت الوزن والعد والمساحة ، فأصبح – بحكم الطبيعة وبطريق اللزوم الإيمان بالله وبما وراء الطبيعة ، من قبيل المفروضات التي لا يؤيدها العقل ولا يشهد بها العلم .
إنهم لم يجحدوا بالله إلى زمن طويل ، ولم يكاشفوا الدين العداء ، ولم يجحدوا به كلهم ، ولكن منهج التفكير الذي اختاروه ، والموقف الذي اتخذوه في البحث والنظر لم يكن ليتفق والدين الذي يقوم على الإيمان بالغيب وأساسه الوحي والنبوة ودعوته ولهجه بالحياة الأخروية ، ولا شيء من ذلك يدخل تحت الحس والاختبار ويصدقه الوزن والعد والمساحة ، فلم يزالوا يزدادون كل يوم شكاً في العقائد الدينية .

أبو الحسن الندووى - الفصل الأول - الباب الرابع

كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.

هناك 19 تعليقًا:

  1. السلام عليكم
    كتاب ومرجع اكثر من رائع قرأته بفضل الله
    اشكرك على الاختيار الطيب اخى ابراهيم


    تحياتى وتقديرى

    ردحذف
    الردود
    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      حقا اختنا الكريمة فكتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين. كتاب ماتع بكل معانى الكلمة..
      لاحرمنا الله من متابعتكم لنا
      دمتم فى أمان الله

      حذف
  2. مشكووور والله يعطيك العافيه


    good thenkss

    ردحذف
  3. السلام عليكم..
    موفق في اختيارك للموضوع وفي النقل.
    أعتقد أننا جميعا بحاجة لمراجعة هذه الكتابات الرائعة والالتفات إلى ما يختبئ بين سطورها، بالذات في هذا الزمان الذي بدأ فيه البعض يتجرأ على الإسلام وكل من ينتمي أو يدعو إليه.
    تقبل تحياتي..

    ردحذف
    الردود
    1. بالفعل أخى بهاء..
      هدا الله هؤلاء وثبتنا جميعا على الحق
      دمت فى امان الله

      حذف
  4. موضوع اكثر من رائع

    تسلم على الاختيار الجميل

    مع خالص تحياتى

    ردحذف
    الردود
    1. الله يكرمك أخ تامر..
      نورتنا..
      دمت فى امان الله

      حذف
  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خيرا على هذا الموضوع الجميل
    والله موضوع جميل ومشوق بارك الله فيكم ياشباب

    ردحذف
    الردود
    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      جزانا وإياكم إن شاء الله
      نورتنا

      حذف
  6. كما تعودنا في مدونتك كل مفيد وشيق. إختيار موفق :)

    ردحذف
    الردود
    1. الله يكرمك أخ علاء..
      نورتنا
      دمت فى امان الله..

      حذف
  7. نعم ماقامت به الكنيسه في العصور الوسطي ضد العلم والعلماء دفع المجتمعات الغربيه الي فصل الدين عن الدوله ولكن هذا الفصل تسبب في كوارث اخلاقيه يئن من وطأتها الشعوب الغربيه التي ابتعدن تماما عن منظومة الاخلاق ....والغريب ان ينادي مفكرين من بني جلدتنا بفصل الدين عن الدوله متجاهلين الفرق الشاسع بين تعاليم ديننا التي تحثنا علي طلب العلم والتدبر في ايات الله وفي كونه وبين تعاليم الكنيسه في العصور الوسطي التي كانت تحارب العلم والعلماء!!

    ردحذف
    الردود
    1. مفكرينا انقسموا لقسمين قسم يشن هجومه على الإسلام وكل من حمل لوائه لكرهه للإسلام وقسم أخر منهم قد يكون ذكى ولكنه ليس على دراية كافية بالإسلام وشموليته وقابليته على تقبل الجديد مالم يخالفه وهكذا انتهجوا نهج ثورة رجال تجديد فى اوروبا ويندرج تحت القسم الاخر الكثير من العوام الذين يرددوا الكلام بدون علم هذا القسم معلوماته ضعيفة عن الإسلام مما يسهل تشويش الامور عليه ويسهل توجيهه للأسف..
      دمت فى أمان الله

      حذف
  8. أخي الفاضل
    " كل ميسر لما خلق له " و على ذلك لو أن كل إنسان عرف حدوده و التزم تخصصه و لم يجادل فيما يعلم و لا يعلم لارتاحت البشرية و للزال الصراع الوهمي بين الدين و العلم ، لأن العلم الصحيح سيقود حتماً للإيمان و التدين الحقيقي يأمر بالعلم و التعلم لأن ذلك يقود إلى حقائق الكون ، تقبل تحياتي

    ردحذف
    الردود
    1. صدقت أستاذنا الفاضل..
      بالفعل فهذا صراع وهمى نشأ فى مجتمعات لم تبحث عن الحق..
      دمت بخير

      حذف
  9. بارك الله فيك

    و جزاك كل خير

    ردحذف
    الردود
    1. وبارك فيكم
      جزانا وإياكم خيرا إن شاء الله

      حذف
  10. رائع جدا خيو على هذه المواضيع القيمة دمت بخير

    ردحذف

مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ..ق18